في زمن تغيرت فيه مفاهيم الفن والمكان، خرجت ابوظبي عن المألوف بمبادرة جريئة: تحويل المدينة إلى معرض مفتوح. بينالي الفن العام في ابوظبي ليس مجرد حدث فني، بل حركة ثقافية تعيد تعريف علاقة الناس بالمساحات من حولهم. من نوفمبر 2024 وحتى نهاية أبريل 2025، تنفست شوارع ابوظبي فناً، وتحولت الواجهات، الحدائق، والطرقات إلى منصات تعبير. لم تكن تجربة مشاهدة فنية تقليدية، بل لقاء يومي مع الإبداع في أكثر أماكن الحياة اعتيادية.
الملفت في هذا البينالي أن الفن لم يُحصر داخل المتاحف، بل خرج ليصبح جزءاً من المشهد اليومي. من الواجهة البحرية في الكورنيش إلى المنتزهات والمناطق الشعبية، يندمج الفن المعاصر بهوية المكان وتاريخه. تحت عنوان "المادة العامة"، يقدم أكثر من 70 فنانا رؤى تعكس علاقتهم بالمجتمع، كلٌ بطريقته، ضمن مسارات فنية مختلفة تجوب أنحاء العاصمة. الفكرة ليست في عرض الفن، بل في جعله يعيش داخل المدينة، ليحاور المارة ويكسر حدود التلقي التقليدي.
ليست كل الأعمال مجرد لوحات أو تماثيل تُشاهد عن بعد، بل معظمها يطلب من الزائر أن يتفاعل. في حديقة البحيرة مثلًا، يضعك عمل "البيت الغارق" أمام تساؤلات عن تغير المناخ والمستقبل المعماري. في منطقة السوق، يتحول السجاد إلى مساحة رقمية للجلوس والتأمل بفضل عمل رقمي ضخم يمزج بين التراث والبكسلات. وفي الكورنيش، يعيد فنان آخر تقديم الطبيعة بطريقة شعرية مستوحاة من لوحات مونيه، لكن بروح اجتماعية معاصرة.
من أجمل ما يقدمه الحدث هو مساحته المفتوحة لجميع الأعمار. عمل "الخيمة القط" في الحديقة ليس فقط للأطفال، بل لكل من يرغب في ترك بصمته على الجدار القماشي. الأطفال يرسمون، الكبار يتأملون، والمكان يتحول إلى مشهد جماعي نابض بالحياة. فكرة أن الفن يمكن أن يكون تفاعليًا، حسيًا، ومتاحًا للجميع هي ما يضفي على البينالي طابعه الفريد.
أحد أهداف البينالي هو دعم التوجه نحو فن مستدام يعكس هموم العصر دون أن يفقد صلته بالبيئة والناس. فمثلاً، هناك عمل معماري مصنوع بالكامل من مواد معاد تدويرها، يدعو للتفكير في شكل المدن مستقبلاً. إلى جانب ذلك، يسلط الحدث الضوء على فنانين محليين يعبرون عن تراثهم بأساليب معاصرة، مما يعزز من مكانة ابوظبي كمركز للحوار الثقافي العالمي.
ما حدث في ابوظبي اليوم فكرة "حدث فني" محدود الزمن. إنها استراتيجية ثقافية واضحة، تتجلى في مشاريع مثل اللوفر ابوظبي وغوغنهايم القادم، ولكنها تصل إلى الشارع من خلال الفن العام. الهدف أن تصبح المدينة نفسها معرضاً متجدداً، يتغير ويتطور، وتصبح الثقافة جزءًا من حياة الناس اليومية، لا مجرد زيارة موسمية.